سورة النجم - تفسير تفسير ابن عطية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النجم)


        


أقسم الله تعالى بهذا المخلوق تشريفاً له وتنبيهاً منه ليكون معتبراً فيه حتى تولى العبرة إلى معرفة الله تعالى. وقال الزهري، المعنى: ورب النجم، وفي هذا قلق مع لفظ الآية. واختلف المتأولون في تعيين النجم المقسم به فقال ابن عباس ومجاهد والفراء، وبينه منذر بن سعيد هو الجملة من القرآن إذا تنزلت، وذلك أنه روي أن القرآن نزل على محمد صلى الله عليه وسلم نجوماً أي أقداراً مقدرة في أوقات ما، ويجيء {هوى} على هذا التأويل بمعنى: نزل، وفي هذا الهوى بعد وتحامل على اللغة، ونظير هذه الآية قوله تعالى: {فلا أقسم بمواقع النجوم} [الواقعة: 75] والخلاف في هذا كالخلاف في تلك، وقال الحسن ومعمر بن المثنى وغيرهما: {النجم} هنا اسم جنس، أرادوا النجوم إذا هوت، واختلف قائلو هذه المقالة في معنى: {هوى} فقال جمهور المفسرين: {هوى} إلى الغروب، وهذا هو السابق إلى الفهم من كلام العرب، وقال الحسن بن أبي الحسن وأبو حمزة الثمالي {هوى} عند الإنكدار في القيامة فهي بمعنى. قوله: {وإذا الكواكب انتثرت} [الانفطار: 2] وقال ابن عباس في كتاب الثعلبي هو في الانقضاض في أثر العفرية وهي رجوم الشياطين، وهذا القول تسعده اللغة، والتأويلات في {هوى} محتملة، كلها قوية ومن الشاهد في النجم الذي هو اسم الجنس قول الراعي:
فتاقت تعد النجم في مستحيرة *** سريع بأيدي الآكلين جمودها
يصف إهالة صافية، والمستحيرة: القدر التي يطبخ فيها، قاله الزجاج. وقال الرماني وغيره: هي شحمة صافية حين ذابت، وقال مجاهد وسفيان: {النجم} في قسم الآية الثريا، وسقوطها مع الفجر هو هويها والعرب لا تقول النجم مطلقاً إلا للثريا، ومنه قول العرب [مجزوء الرمل]
طلع النجم عشاء *** فابتغى الراعي كساء
طلع النجم غدية *** فابتغى الراعي شكية
و {هوى} على هذا القول يحتمل الغروب ويحتمل الانكدار، و{هوى} في اللغة معناه: خرق الهوى ومقصده السفل أو مسيره إن لم يقصده إليه، ومنه قول الشاعر: [مجزوء الكامل]
هوى ابني شفا جبل *** فزلّتْ رجله ويده
وقول الشاعر: [الطويل]
وإن كلام المرء في غير كنهه *** لك النبل تهوي ليس فيها نصالها
وقول زهير:
هَوِي الدلو أسلمها الرشاء ***
ومنه قولهم للجراد: الهاوي، ومنه هوى العقاب.
والقسم واقع على قوله: {ما ضل صاحبكم وما غوى} والضلال أبداً يكون من غير قصد من الإنسان إليه. والغي كأنه شيء يكتسبه الإنسان ويريده، نفى الله تعالى عن نبيه هذين الحالين، و{غوى}: الرجل يغوي إذا سلك سبيل الفساد والعوج، ونفى الله تعالى عن نبيه أن يكون ضل في هذه السبيل التي أسلكه الله إياها، وأثبت له تعالى في الضحى أنه قد كان قبل النبوءة ضالاً بالإضافة إلى حاله من الرشد بعدها.
وقوله تعالى: {وما ينطق عن الهوى} يريد محمداً صلى الله عليه وسلم أنه ليس يستكلم عن هواه، أي بهواه وشهوته. وقال بعض العلماء: المعنى: وما ينطق القرآن المنزل عن هوى وشهوة، ونسب النطق إليه من حيث تفهم عنه الأمور كما قال: {هذا كتابنا ينطق} [الجاثية: 29] وأسند الفعل إلى القرآن ولم يتقدم له ذكر لدلالة المعنى عليه.
وقوله: {إن هو إلا وحي يوحى} يراد به القرآن بإجماع، والوحي: إلقاء المعنى في خفاء، وهذه عبارة تعم الملك والإلهام والإشارة وكل ما يحفظ من معاني الوحي.
والضمير في قوله: {علمه} يحتمل أن يكون للقرآن، والأظهر أنه لمحمد صلى الله عليه وسلم. وأما المعلم فقال قتادة والربيع وابن عباس: هو جبريل عليه السلام، أي علم محمداً القرآن. وقال الحسن المعلم الشديد القوى هو الله تعالى. و{القوى} جمع قوة، وهذا في جبريل مكتمن، ويؤيده قوله تعالى: {ذي قوة عند ذي العرش مكين} [التكوير: 20]. و{ذو مرة} معناه: ذو قوة، قاله قتادة وابن زيد والربيع، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوى». وأصل المرة من مرائر الحبل، وهي فتله وإحكام عمله، ومنه قول امرئ القيس: [الطويل]
بكل ممر الفتل شد بيذبل ***
وقال قوم ممن قال إن ذا المرة جبريل. معنى: {ذو مرة} ذو هيئة حسنة وقال آخرون: بل معناه ذو جسم طويل حسن.
قال القاضي أبو محمد: وهذا كله ضعيف.
و {استوى} مستند إلى الله تعالى في قول الحسن الذي قال: إنه لمتصف: ب {شديد القوى}، وكذلك يجيء قوله: {وهو بالأفق الأعلى} صفة الله تعالى على معنى وعظمته وقدرته وسلطانه تتلقى نحو الأفق الأعلى، ويجيء المعنى نحو قوله تعالى: {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5]، ومن قال إن المتصف ب {شديد القوى} هو جبريل عليه السلام قال: إن {استوى} مستند إلى جبريل، واختلفوا بعد ذلك، فقال الربيع والزجاج: المعنى: {فاستوى} جبريل في الجو، وهو إذ ذاك، {بالأفق الأعلى} إذ رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم بحراء قد سد الأفق، له ستمائة جناح، وحينئذ دنا من محمد حتى كان {قاب قوسين}، وكذلك هو المراد في هذا القول النزلة الأخرى في صفته العظيمة له ستمائه جناح عند السدرة وقال الطبري والفراء المعنى: {فاستوى} جبريل.
وقوله: {وهو} يعني محمداً صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم ذكره في الضمير في {علمه}. وفي هذا التأويل العطف على المضمر المرفوع دون أن يؤكد، وذلك عند النحاة مستقبح، وأنشد الفراء على قوله: [الطويل]
ألم تر أن النبع يصلب عوده *** ولا يستوي والخروع المتقصف
وقد ينعكس هذا الترتيب فيكون استوى لمحمد وهو لجبريل عليه السلام، وأما {الأعلى} فهو عندي لقمة الرأس وما جرى معه.
وقال الحسن وقتادة: هو أفق مشرق الشمس وهذا التخصيص لا دليل عليه. واختلف الناس إلى من استند قوله. {ثم دنا فتدلى} فقال الجمهور: استند إلى جبريل عليه السلام، أي دنا إلى محمد في الأرض عند حراء. وقال ابن عباس وأنس في حديث الإسراء ما يقتضي أنه يستند إلى الله تعالى، ثم اختلف المتأولون، فقال مجاهد: كان الدنو إلى جبريل. وقال بعضهم: كان إلى محمد. و: {دنا فتدلى} على هذا القول معه حذف مضاف. أي دنا سلطانه ووحيه وقدره لا الانتقال، وهذه الأوصاف منتفية في حق الله تعالى. والصحيح عندي أن جميع ما في هذه الآيات هو مع جبريل، بدليل قوله: {ولقد رآه نزلة أخرى} [النجم: 13] فإن ذلك يقضي بنزلة متقدمة، وما روي قط أن محمداً رأى ربه قبل ليلة الإسراء، أما أن الرؤية بالقلب لا تمنع بحال و{دنا} أعم من: تدلى، فبين تعالى بقوله: {فتدلى} هيئة الدنو كيف كانت، و: {قاب} معناه: قدر. وقال قتادة وغيره: معناه من طرف العود إلى طرفه الآخر. وقال الحسن ومجاهد: من الوتر إلى العود في وسط القوس عند المقبض.
وقرأ محمد بن السميفع اليماني: {فكان قيس قوسين}، والمعنى قريب من {قاب}، ومن هذه اللفظة قول النبي عليه السلام: «لقاب قوس أحدكم في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها» وفي حديث آخر: «لقاب قوس أحدكم في الجنة».
وقوله: {أو أدنى} معناه: على مقتضى نظر البشر، أي لو رآه أحدكم لقال في ذلك قوسان أو أدنى من ذلك، وقال أبو زيد ليست بهذه القوس، ولكن قدر الذراعين أو أدنى، وحكى الزهراوي عن ابن عباس أن القوس في هذه الآية ذراع تقاس به الأطوال، وذكره الثعلبي وأنه من لغة الحجاز.
وقوله تعالى: {فأوحى إلى عبده ما أوحى}، قال ابن عباس المعنى: {فأوحى} الله {إلى عبده} جبريل {ما أوحى}. وفي قوله: {ما أوحى} إبهام على جهة التفخيم والتعظيم، والذي عرف من ذلك فرض الصلاة، وقال الحسن المعنى: فأوحى جبريل إلى عبد الله محمد ما أوحى كالأولى في الإبهام، وقال ابن زيد المعنى: فأوحى جبريل إلى عبد الله محمد ما أوحى الله إلى جبريل.
وقوله تعالى: {ما كذب الفؤاد ما رأى} قرأ جمهور القراء بتخفيف الذال على معنى لم يكذب قلب محمد الشيء الذي رأى، بل صدقه وتحققه نظراً، و{كذب} يتعدى، وقال أهل التأويل ومنهم ابن عباس وأبو صالح: رأى محمد الله تعالى بفؤاده. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «جعل الله نور بصري في فؤادي، فنظرت إليه بفؤادي».
وقال آخرون من المتأولين المعنى: ما رأى بعينه لم يكذب ذلك قلبه، بل صدقه وتحققه، ويحتمل أن يكون التقدير فيما رأى، وقال ابن عباس فيما روي عنه وعكرمة وكعب الأحبار إن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعيني رأسه. بسط الزهراوي هذا الكلام عنهم وأبت ذلك عائشة، وقالت: أنا سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآيات، فقال لي: «هو جبريل فيها كلها». وقال الحسن المعنى: ما رأى من مقدورات الله وملكوته. وسأل أبو ذر رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل رأيت ربك؟ قال: «هو نور إني أراه»، وهذا قول الجمهور، وحديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قاطع بكل تأويل في اللفظ، لأن قول غيرها إنما هو منتزع من ألفاظ القرآن. وقرأ ابن عامر فيما روى عنه هشام: {ما كذّب} بشد الذال، وهي قراءة أبي رجاء وأبي جعفر وقتادة والجحدري وخالد، ومعناه بين على بعض ما قلناه، وقال كعب الأحبار: إن الله تعالى قسم الكلام والرؤية بين موسى ومحمد، فكلم موسى مرتين، ورآه محمد مرتين، وقالت عائشة رضي الله عنها: لقد وقف شعري من سماع هذا وتلت: {لا تدركه الأبصار، وهو يدرك الأبصار} [الأنعام: 103]. وذهبت هي وابن مسعود وقتادة وجمهور العلماء إلى أن المرئي هو جبريل عليه السلام في المرتين: في الأرض وعند سدرة المنتهى ليلة الإسراء، وقد ذكرتها في سورة سبحان وهي مشهورة في الكتب الصحاح.
وقرأ ابن كثير وعاصم وابن عامر هذه السورة كلها بفتح أواخر آيها وأمال عاصم في رواية أبي بكر: رأى. وقرأ نافع وأبو عمرو بين الفتح. وأمال حمزة والكسائي جميع ما في السورة، وأمال أبو عمرو فيما روى عنه عبيد: {الأعلى} و: {تدلى}.


قوله تعالى: {أفتمارونه} خطاب لقريش، وهو من الصراء والمعنى أتجادلونه في شيء رآه وأبصره، وهذه قراءة الجمهور وأهل المدينة، وقرأ علي بن أبي طالب وابن عباس وابن مسعود وحمزة والكسائي: {أفتَمرونه} بفتح التاء دون ألف بعد الميم، والمعنى: أفتجدونه؟ وذلك أن قريشاً لما أخبرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمره في الإسراء مستقصى، كذبوا واستخفوا حتى وصف لهم بيت المقدس وأمر عيرهم وغير ذلك مما هو في حديث الإسراء مستقصى، ورواها سعيد عن النخعي: {أفتُمرونه} بضم التاء، قال أبو حاتم: وذلك غلط من سعيد. وقوله: {يرى} مستقبلاً والرؤية قد مضت عبارة تعم جميع ما مضى وتشير غلى ما يمكن أن يقع بعد، وفي هذا نظر.
واختلف الناس في الضمير في قوله: {ولقد رآه} حسبما قدمناه، فقال ابن عباس وكعب الأحبار: هو عائد على الله، وقال ابن مسعود وعائشة ومجاهد والربيع: هو عائد على جبريل. و: {نزلة} معناه: مرة، ونصبه علىلمصدر في موضع الحال. و: {سدرة المنتهى} هي شجرة نبق، قال كعب: هي في السماء السابعة، وروى ذلك مالك بن صعصعة عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقال ابن مسعود: في السماء السادسة. وقيل لها: {سدرة المنتهى} لأنها إليها ينتهي علم كل عالم، ولا يعلم ما وراءها صعداً إلا الله تعالى. وقيل سميت بذلك لأنها إليها ينتهي من مات على سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
قال القاضي أبو محمد: هم المؤمنون حقاً من كل جيل.
وقيل سميت بذلك، لأن ما نزل من أمر الله فعندها يتلقى ولا يتجاوزها ملائكة العلو، وما صعد من الأرض فعندها يتلقى ولا يتجاوزها ملائكة السفل. وروي عن النبي عليه السلام أن الأمة من الأمم تستظل بظل الفنن منها، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رفعت لي {سدرة المنتهى}، فإذا نبقها مثل قلال هجر، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة».
وقوله تعالى: {عندها جنة المأوى} قال الجمهور: أراد أن يعظم مكان السدرة ويشرفه بأن {جنة المأوى} عندها. قال الحسن: وهي الجنة التي وعد بها العالم المؤمن. وقال قتادة وابن عباس بخلاف هي جنة يأوي إليها أرواح الشهداء والمؤمنين، وليست بالجنة التي وعد بها المؤمنون جنة النعيم، وهذا يحتاج إلى سند وما أراه يصح عن ابن عباس.
وقرأ علي بن أبي طالب وابن الزبير بخلاف، وأنس بن مالك بخلاف، وأبو الدرداء وزر بن حبيش وقتادة ومحمد بن كعب: {جنة المأوى} بالهاء في جنة، وهو ضمير محمد صلى الله عليه وسلم، والمعنى: ستره وضمه إيواء الله تعالى وجميل صنعه به، يقال: جنه وأجنه، وردت عائشة وصحابة معها هذه القراءة وقالوا: أجن الله من قرأها.
والجمهور قرأ: {جنة} كالآية الأخرى: {فلهم جنات المأوى نزلاً} [السجدة: 19] وحكى الثعلبي أن معنى جنة المأوى: ضمه المبيت والليل.
وقوله: {إذ يغشى السدرة ما يغشى} التعامل في: {إذ}، {رآه}. المعنى: رآه في هذه الحال. و{ما يغشى} معناه من قدرة الله، وأنواع الصفات التي يخترعها لها، وذلك منهم على جهة التفخيم والتعظيم، وقال مجاهد تبدل أغصانها دراً وياقوتاً ونحوه. وقال ابن مسعود ومسروق ومجاهد: ذلك جراد من ذهب كان يغشاها. وروى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رأيتها ثم حال دونها فراش الذهب». وقال الربيع وأبو هريرة: كان تغشاها الملاكة كما تغشى الطير الشجر، وقيل غير هذا مما هو تكلف في الآية، لأن الله تعالى أبهم ذلك وهم يريدون شرحه، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فغشيها ألوان لا أدري ما هي؟» وقوله تعالى: {ما زاغ الصبر} قال ابن عباس معناه: ما جال هكذا ولا هكذا. وقوله: {وما طغى} معناه: ولا تجاوز المرئي، بل وقع عليه وقوعاً صحيحاً، وهذا تحقيق للأمر ونفي لوجود الريب عنه.
وقوله تعالى: {لقد رأى من آيات ربه الكبرى} قال جماعة من أهل التأويل معناه: رأى الكبرى من آيات ربه، والمعنى {من آيات ربه} التي يمكن أن يراها البشر، ف {الكبرى} على هذا مفعول ب {رأى}. وقال آخرون المعنى: {لقد رأى} بعضاً {من آيات ربه الكبرى}، ف {الكبرى} على هذا وصف للآيات، والجمع مما لا يعقل في المؤنث يوصف أبداً على حد وصف الواحدة. وقال ابن عباس وابن مسعود: رأى رفرفاً أخضر من الجنة قد سد الأفق. وقال ابن زيد: رأى جبريل في صورته التي هو بها في السماوات.


قوله تعالى: {أفرأيتم} مخاطبة لقريش، وهي من رؤية العين، لأنه أحال على أجرام مرئية، ولو كانت: أرأيت: التي هي استفتاء لم تتعد. ولما فرغ من ذكر عظمة الله وقدرته، قال على جهة التوقيف: أرأيتم هذه الأوثان وحقارتها وبعدها عن هذه القدرة والصفات العلية و: {اللات} اسم صنم كانت العرب تعظمه، قال أبو عبيدة وغيره: كان في الكعبة، وقال قتادة: كان بالطائف. وقال ابن زيد: كان بنخلة عند سوق عكاظ، وقول قتادة أرجح يؤيده قول الشاعر: [المتقارب]
وفرّت ثقيف إلى لاتها *** بمنقلب الخائب الخاسر
والتاء في: {اللات} لام فعل كالباء من باب، وقال قوم هي تاء تأنيث، والتصريف يأبى ذلك، وقرأ ابن عباس ومجاهد وأبو صالح: {اللاّت} بشد التاء، وقالوا: كان هذا الصنم حجراً وكان عنده رجل من بهز يلت سويق الحاج على ذلك الحجر ويخدم الأصنام، فلما مات عبدوا الحجر الذي كان عنده إجلالاً لذلكا لرجل وسموه باسمه، ورويت هذه القراءة عن ابن كثير وابن عامر، {والعزى}: صخرة بيضاء كانت العرب تعبدها وتعظمها، قاله سعيد بن جبير وقال ابن مجاهد: كانت شجيرات تعبد ثم ببلاها انتقل أمرها إلى صخرة. وعزى مؤنثة عزيز ككبرى وعظمى، وكانت هذه الأوثان تعظم الوثن منها قبيلة وتعبدها، ويجيء كل من عز من العرب فيعظمها بتعظيم حاضرها. وقال أبو عبيدة معمر: كانت {العزى} {ومناة} في الكعبة، وقال ابن زيد: وكانت {العزى} بالطائف، وقال قتادة: كانت بنخلة وأما {مناة} فكانت بالمشلل من قديد، وذلك بين مكة والمدينة، وكانت أعظم هذه الأوثان قدراً وأكثرها عابداً، وكانت الأوس والخزرج تهل لها، ولذلك قال تعالى: {الثالثة الأخرى} فأكدها بهاتين الصفتين، كما تقول رأيت فلاناً وفلاناً ثم تذكر ثالثاً أجل منهما، فتقول وفلاناً الآخر الذي من أمره وشأنه.
ولفظة آخر وأخرى يوصف به الثالث من المعدودات، وذلك نص في الآية، ومنه قول ربيعة بن مكدم: [الكامل]
ولقد شفعتهما بآخر ثالث ***
وهو التأويل الصحيح في قول الشاعر [عبيد بن الأبرص]: [مجزوء الكامل]
جعلت لها عودين من *** نشم وآخر من ثمامه
وقرأ ابن كثير وحده: {ومناءة} بالهمز والمد وهي لغة فيها، والأول أشهر وهي قراءة الناس، ومنها قول جرير: [الوافر]
أزيد مناة توعد بابن تيم *** تأمل أين تاه بك الوعيد
ووقف تعالى الكفار على هذه الأوثان وعلى قولهم فيها، لأنهم كانوا يقولون: هي بنات الله، فكأنه قال: أرأيتم هذه الأوثان وقولكم هي بنات الله {ألكم الذكر وله الأنثى}، أي النوع المستحسن المحبوب هو لكم وموجود فيكم؟ والمذموم المستثقل عندكم هو له بزعمكم، ثم قال تعالى على جهة الإنكار: {تلك إذاً قسمة ضيزى} أي عوجاء، قاله مجاهد، وقيل {ضيزى} معناه: جائرة، قاله ابن عباس وقتادة، وقال سفيان معناه: منقوصة، وقال ابن زيد معناه: مخالفة، والعرب تقول: ضزته حقه أضيزه، بمعنى: منعته منه وظلمته فيه، و: {ضيزى} من هذا التصريف وأصلها فُعلى بضم الفاء ضوزى لأنه القياس، إذ لا يوجد في الصفات فِعلى بكسر الفاء، كذا قال سيبويه وغيره، فإذا كان هذا فهي ضوزى: كسر أولها كما كسر أول عِين وبيض طلباً للتخفيف، إذ الكسرة والياء أخف من الضمة والواو كما قالوا بيوت وعصى هي في الأصل فعول بضم الفاء، وتقول العرب: ضزته أضوزه فكان يلزم على هذا التصريف أن يكون ضوزى فعلى، وفي جميع هذا نظر.
وقرأ ابن كثير: {ضئيزى} بالهمز على أنه مصدر كذكرى، وقرأ الجمهور بغير همز.
ثم قال تعالى: {إن هي إلا أسماء} يعني أن هذه الأوصاف من أنها إناث وأنها تعبد آلهة ونحو هذا إلا أسماء، أي تسميات اخترعتموها {أنتم وآباؤكم} لا حقيقة لها ولا أنزل الله تعالى بها برهاناً ولا حجة، وقرأ عيسى بن عمر: {سلُطان} بضم اللام، وقرأ هو وابن مسعود وابن عباس وابن وثاب وطلحة والأعمش {إن تتبعون} بالتاء على المخاطبة، وقرأ أبو عمرو وعاصم ونافع والأعمش أيضاً والجمهور: {يتبعون} بالياء على الحكاية عن الغائب و{الظن}: ميل النفس إلى أحد معتقدين متخالفين دون أن يكون ميلها بحجة ولا برهان وهوى الأنفس: هو إرادتها الملذة لها وإنما تجد هوى النفس أبداً فيترك الأفضل، لأنها مجبولة بطبعها على حب الملذ، وإنما يردعها ويسوقها إلى حسن العاقبة العقل والشرع.
وقوله تعالى: {ولقد جاءهم من ربهم الهدى} اعتراض بين الكلام فيه توبيخ لهم، لأن سرد القول إنما هو يتبعون ولا {الظن وما تهوى الأنفس}، {أم للإنسان ما تمنى}، وقف على جهة التوبيخ والإنكار لحالهم ورأيهم، ثم اعترض بعد قوله: {وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى} جملة في موضع الحال، والهدى المشار إليه، ومحمد وشرعه.
وقرأ ابن مسعود وابن عباس: {ولقد جاءكم من ربكم} بالكاف فيهما، وقال الضحاك إنهما قرآ {ولقد جاءك من ربك}.
و الإنسان في قوله: {أم للإنسان}، اسم الجنس، كأنه يقول ليست الأشياء بالتمني والشهوات، إنما الأمر كله لله والأعمال جارية على قانون أمره ونهيه فليس لكم، أيها الكفرة مرادكم في قولكم هذه آلهتنا وهي تنفعنا وتقربنا زلفى ونحو هذا. وقال ابن زيد والطبري: الإنسان هنا: محمد، بمعنى أنه لم ينل كرامتنا بتأميل، بل بفضل الله أو بمعنى بل إنه تمنى كرامتنا فنالها، إذ الكل لله يهب ما شاء، وهذا لا تقتضيه الآيات، وإن كان اللفظ يعمه. و: {الآخرة والأولى} الداران، أي له كل أمرهما ملكاً ومقدوراً وتحت سلطانه.
وقوله تعالى: {وكم من ملك} الآية، رد على قريش في قولهم: الأوثان شفعاؤنا، كأنه يقول: هذه حال الملائكة الكرام، فكيف بأوثانكم، و{كم} للتكثير وهي في موضع رفع بالابتداء والخبر: {لا تغني} والغناء حلب النفع ودفع الضر بحسب الأمر الذي يكون فيه الغناء وجمع الضمير في {شفاعتهم} على معنى: {كم} ومعنى الآية: {أن يأذن الله} في أن يشفع لشخص ما ويرضى عنه كما أذن في قوله: {الذين يحملون العرش ومن حوله} [غافر: 7].

1 | 2 | 3